يدرك الجميع أن التقدم التكنولوجي الذي واكب الثورة الصناعية الرابعة، إلى جانب التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قد مهّد الطريق لإحداث تغييرات كبرى في مستقبل العمل. إن الحديث حول "مستقبل العمل" ليس جديداً، فهو دائرُ منذ عدة سنوات، غير أن الأزمة التي واجهت العالم بسبب جائحة كوفيد-19، وضعت الجميع في قلب التحول المتعلق ببيئة العمل وثقافته وآلياته.
شهد النصف الأول من العام 2020 تغيرات كبيرة في طبيعة العمل والقوى العاملة وأماكن العمل في مختلف القطاعات بدولة الإمارات، وقد أثرت تلك التغييرات على الجميع على المستويين المهني والشخصي معاً. وبينما تمكنت الشركات المجهزة تقنياً من مواصلة العمل خلال الأزمة على النحو المعتاد إلى حد ما، فقد كشف النهج الجديد في العمل عن العديد من التوجهات والخيارات لكل من أصحاب العمل والموظفين على حد سواء.
وقد كشفت الأدوات التكنولوجية، التي نستخدمها اليوم في العمل لتسهيل الاتصال أو مشاركة البيانات أو إدارة الموارد البشرية أو غيرها من المهام، النقاب عن توفّر بدائل عديدة وفعالة مقارنة بالأنظمة والسياسات التقليدية في العمل. كما ظهرت مفاهيم جديدة مثل مكان العمل الهجين، الذي يسمح بالمزج بين العمل عن بعد والعمل في المكتب حسب المتطلبات الوظيفية.
لقد أخذت الفكرة المعتادة بالعمل 5 أيام في الأسبوع من الساعة 9 صباحاً وحتى 5 مساءً بالاضمحلال، إذ بدأت العديد من الشركات توفّر وسائل أكثر ابتكاراً ومرونة لتمكين الموظفين من أداء مهامهم. ونرى اليوم حكومات ومؤسسات تتبنى نظام العمل لأربعة أيام في الأسبوع مع منح الموظفين المزيد من الحرية للعمل من أي مكان.
مؤدى ذلك أن التكنولوجيا قد بدأت بالفعل في رسم معالم مستقبل العمل، وفي هذه الفترة الانتقالية ، نستطيع أن نقيّم بشكل أفضل إذا ما كانت أساليب العمل والتعلم تخدم احتياجاتنا على أفضل نحو.
لكن هذه المرونة والحرية والاستمرارية بالعمل التي تتيحها الوسائل التكنولوجية الحديثة يرافقها بعض التحفظات التي تتطلب النظر فيها. ومن أهمها تلك المتعلقة بالفجوة في المهارات والمعرفة الرقمية وما مدى جاهزية الشركات والموظفين على مواكبة تلك التقلبات في طبيعة العمل وآليات سيره.
تكمن الإجابة على تلك المسألة في التحول من التركيز على المخرجات النهائية إلى التنمية المبنية حول الإنسان. حيث إن المؤسسات التي تهتم بالإنسان أولاً، وتسخّر التكنولوجيا لتحسين تجربة الموظفين ومخرجات العمل معاً، ستكون هي المستفيد الأكبر من "مستقبل العمل" القادم.
وقد بدأ العديد من الشركات الناشئة حول العالم في التعرف إلى وسائل استخدام التكنولوجيا الحديثة لرسم مستقبل العمل وتطويره. وسواء تعلّق الأمر بنماذج المواهب البديلة أو إعادة بناء المهارات، فإن فرص الاستثمار في مستقبل العمل باتت غير محدودة. وبالتالي ظهرت معايير جديدة للكفاءات بما سمح لفئات جديدة من الوظائف لدخول سوق العمل وتمكين انضمام المزيد من المواهب والمهارات.
في عالم اليوم، يواجه أصحاب العمل استقالات أو عمليات إعادة نظر عديدة، حيث يترك العديد من الناس أعمالهم من أجل الاستفادة من خيارات الاقتصاد المشترك، وهو مفهوم انبثق عن التطور التكنولوجي الذي أتاح لملايين الأفراد حول العالم الحصول على دخل مادي من خلال تحويل ما يملكونه من مواهب أو أصول أو فرص إلى منتج أو خدمة مقابل إيرادات حقيقية.
وعلى الجانب الآخر، تزداد الشواغر المتاحة، والناشئة عن التكنولوجيا ومستجداتها. وقد منحت هذه الديناميكية المزيد من الحرية والقوة للموظف كفرد وكذلك لصاحب العمل الذي يعمل على إعادة تصميم الممارسات المؤسسية للتركز أكثر على الكفاءات فيها.
ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، فإن العالم بحاجة لوضع سياسات محددة من أجل ضمان أن جميع الإجراءات والعمليات المرتبطة بالعمل تضمن العدالة والأمان والكرامة، خاصة مع عدم وجود أن شكل تعاقدي محصّن من التقلبات الجارية والقادمة في مجال العمل. وحتى مع التغيرات المرتقبة في المستقبل، سيبقى العمل لتأمين العيش الكريم واستقرار الفرد حاجة ضرورية وثابتة. ومن هنا يتعيّن على الحكومات والشركات والموظفين والمؤسسات التركيز على معالجة التحديات في سياق مستقبل العمل من خلال تكاتف الجهود الوطنية والإقليمية والعالمية لتوفير شروط الأمن والاستقرار والإنصاف في العمل.